
ناصر القصبي في نهاية الحلقة
عندما وضع السيناريست الراحل عبدالرحمن الوابلي فكرة حلقة “صعصعة” في مسلسل “سيلفي2” لم يخطر في ذهنه أنه سيكون جزءاً مهماً من أحداث الحلقة، وأحد أبطالها الرئيسيين، حيث كان قد كتب الخطوط العامة لفكرته قبل رحيله بفترة قصيرة، راسماً فيها لوحة وفاء لمبدعين رحلوا قبله، مثل طلال مداح وغازي القصيبي ومحمد الثبيتي رحمهم الله أجمعين، ساعياً لإعادة الاعتبار لأسمائهم ولتاريخهم الإبداعي الكبير عبر هذه الحلقة البسيطة في أحداثها العميقة في مراميها. لكن قدر الله كانت له الكلمة الأولى، وانتقلت روح عبدالرحمن الوابلي إلى بارئها وانضمت إلى أرواح الراحلين قبله، ليستلم شعلة الوفاء صديقه ناصر القصبي ويكمل إنجاز الحلقة، مكرماً المبدعين الراحلين وعلى رأسهم شريك نجاحه ومؤلف أهم أعماله منذ “طاش ما طاش” عبدالرحمن الوابلي.
شارع «طلال مداح» يفضح التطرف
حملت الحلقة صرخة “فنان” في وجه أعداء الجمال، كارهي الفنون والإبداع، وكأنها صرخة ذاتية من أعماق “الفنان” ناصر القصبي تعبر عن عمق ألمه من تجاهل مبدعين أثروا حياة المجتمع وصنعوا هويته بأعمالهم الخالدة، وذلك إرضاء لفئة اعتادت المشاكسة و”محاكمة الأموات” ورفض الفنون. صرخةٌ تختزل تجربته الشخصية وهو الممثل المبدع الذي ناله ما ناله منذ أن قرر التصدي لأفكار التشدد في “طاش” منتصف التسعينيات وحتى اليوم مع “سيلفي”.
تروي الحلقة قصة رجل –يؤدي دوره ناصر القصبي- يعاني ضغوطاً حياتية رهيبة من كل جانب، فاتورة الماء وقسط السيارة وقسط مدرسة ابنه، وطلبات زوجته التي لا تنتهي، وضغوطات أخرى تأتيه من عائلته الكبيرة التي تريد منه 500 ريال شهرياً لدعم صندوق العائلة. وأمام هذا العبء النفسي والاقتصادي، يبحث عن من يمد له يد العون أو على الأقل يتفهم معاناته، ولا يجد سوى جيرانه الذين يشكون هم الآخرين من معاناة أخرى تختلف كثيراً عن معاناته، ولا تلتقي إطلاقاً مع همومه الحياتية الواقعية.
منذ البداية يشير ناصر القصبي في حلقته المميزة إلى الجرح مباشرة، إن هؤلاء الجيران الذين يمثلون الفئة المشاكسة لا يعبأون بالواقع المعاش ولا يسعون لحل مشاكله، بل يتجاهلون كل ذلك ويذهبون إلى مقر البلدية لا من أجل الشكوى ضد تقصير في خدمة ما أو الاعتراض على مشكلة ملموسة بل من أجل الشكوى ضد مبدع راحل تم إطلاق اسمه على شارع في حيهم. لقد أعمى التشدد أبصارهم عن رؤية الواقع الحقيقي وانشغلوا بالماضي وبرموز الماضي الذين لا يشكلون أهمية بالنسبة لمواطن عادي أنهكته الديون وأتعبته ضغوطات الحياة. ولا تكتفي الحلقة بهذه الإشارة المهمة التي تحدد الفرق الجوهري بين محبي الحياة وخصومها، بين من ينظر للواقع كما هو ويسعى لحل مشاكله، وبين من يستورد الماضي بكل عقده ومشاكله ويستنزف جهده في قضايا جدلية لا تفيد. تتجاوز الحلقة هذه الفكرة وتنتقل بذكاء إلى فصل من فصول الوفاء تجاه مبدعين خدموا الوطن وأثروا حياة السعوديين بالفن والضياء والجمال، وذلك في مشهد رائع اجتمع فيه بطل الحلقة مع جيرانه أمام منزله يرافقهم موظف البلدية الذي يحمل عدة اقتراحات لتسمية الشارع، من بينها اسمي الراحلين د. غازي القصيبي وشاعر البيد محمد الثبيتي، ومع الجدل الذي يجري بين هؤلاء يفضح “سيلفي” الفكر الغالي المتطرف الذي يحاول طمس منارات الضياء في حياة السعوديين.
أما الراحل طلال مداح فقد كانت له وقفة خاصة، نقل خلالها ناصر القصبي صرخة المحبين لهذا الفنان العظيم “صوت الأرض” والذي تعرض بعد رحيله لإساءات كبيرة من قبل الفئة المشاكسة بهدف طمس ذكراه وإبعاده عن الفضاء العام، وما “الأناشيد” التي تظهر بين الفينة والأخرى والتي تسرق أغانيه وتعيد إنتاجها من جديد بلا موسيقى وبلا “صوت الأرض” إلا جزء من تكريس الإساءة ضد الجمال الذي بثه طلال مداح في أرجاء الوطن. لذا جاءت صرخة القصبي تلخيصاً لهذه المعاناة التي امتدت لأكثر من 16 عاماً، ونقلاً لصوت محبي هذا الفنان الذين ساءهم ما يرونه من تجاهل وتعد على تراث فني كبير يمثله طلال مداح.
رغم بساطة الحلقة في شكلها العام إلا أنها احتوت على ترميزات ذكية تلخص جانباً من الصراع الفكري في المملكة، حتى “نبرة” ناصر القصبي وهو يدافع عن تسمية الشارع باسم الراحل طلال مداح تحمل في طياتها الكثير من الدلالات ليس أقلها أن هذا الفنان خدم الوطن ونفع الناس أكثر من المناوئين لفنه. يصرخ: “هذا طلال مداح.. هذا صوت الأرض” ويكاد يسألهم: كيف لا تعرفون ولا تقدرون ولا تحترمون فناناً بحجم صوت الأرض؟!. وجاءت الخاتمة لتكون تتويجاً مؤثراً لكل هذه الأفكار، وبطلها هو كاتب الحلقة بالذات، الراحل عبدالرحمن الوابلي، الذي رحل عن الحياة قبل نحو شهرين وتعرض بعد وفاته لإساءات مؤذية من قبل كارهي الفنون الذين لم ينسوا أنه مؤلف أشهر حلقات “طاش” التي انتقدت التطرف والمتطرفين، فكتبوا فيه كتابات مسيئة لا تناسب رهبة الموت ولا هيبته، يشبهون بسلوكهم المؤذي وغير العقلاني تصرف الجيران في حلقة “صعصعة” الذين يصرون على محاكمة الأموات وتصنيفهم ومحاربتهم.
إن حلقة كهذه بأفكارها ودلالاتها لا تصدر إلا من فنان مثقف مثل ناصر القصبي. فنان يعي قيمة الفنون ورموزها ويعرف كيف يعالج نصوصه ويديرها بذكاء لتخدم هدفه النهائي الأسمى ألا وهو إعلاء صوت الفنون والإبداع والجمال في مقابل دحر التشدد والكراهية. هذا الفنان هو الذي يستطيع صناعة نهاية عظيمة بدلالاتها ومفاجأتها مثل وضع اسم عبدالرحمن الوابلي على لوحة الشارع، في لحظة مؤثرة مشحونة بالعاطفة تشبه تلك اللحظة الخالدة التي ختم بها حلقتي “بيضة الشيطان” في “سيلفي” في رمضان الماضي.